مشاركة في العدد الجديد

محلل الأعمال .. بين مُمْكِنات التقنية وحكمة الإنسان

Business Analyst... Between Technology Capabilities & Human Wisdom

من المعلوم أن دور محلل الأعمال قد ظهر نتيجة للتطور الذي حدث في تقنية المعلومات، والذي مكّن المؤسسات من بناء أنظمة معلومات تحسِّن من إدارتها للعمليات وطرق إتخاذ القرار. لكن، هذا التطوير والتحسين أدى بمرور الوقت إلى تعقيد هائل في بيئة الأعمال؛ حتى صار التعقيد سمة من سمات هذه البيئات، خاصة في عصر ما يسمى بـ”ما بعد الحداثة”، أي بعد الإنفجار المعلوماتي وثورة التكنولوجيا وإقتصاد المعرفة، بدءاً من نهاية السبعينات وحتى مطلع الألفية مروراً بإكتشاف الإنترنت في تسعينات القرن الماضي، وحتى اليوم، حيث البيانات الضخمة وإنترنت الأشياء والذكاء الصناعي…الخ. من هنا، ظهر الإحتياج لدور محلل الأعمال؛ لكي “يجسر” العلاقة بين التقنية وبيئات الأعمال. (1)

واليوم، تبدو الملاحظة الجلية أن معظم المشاريع التي يعمل فيها محللو الأعمال هي مشاريع تتعلق بالتحول التقني والرقمي. ويعد تحليل البيئة الخارجية بإستخدام أداة مثل PESTLE من الأدوار التي يساهم فيها محلل الأعمال، ويشمل تحليل الواقع التقني المشار إليه بالحرف T, Technical.

بعيداً عن “كمفلاج” المصطلحات الفلسفية والفنية، فإن التقنية وفقاً للتعاريف السائدة – التي تنزعها عن سياقها المجتمعي والبيئي الذي أنشأها ومقطوعة الصلة عن الإعتبارات الأخلاقية والقيمية – هي: وسيلة تطبيق الإكتشافات أو الأساليب العلمية، أو المعرفة المنظمة، لإنتاج أدوات معينة أو القيام بمهام معينة؛ من أجل حل مشاكل الإنسان والبيئة. ولقد دفعت بلادنا، والبشرية جمعاء، ثمناً باهظاً لهذا التعريف الضيق للتقنية.

في كتابه الموسوم بـ” العرب وعصر المعلومات”، أكد أبو التقنية العربية، الدكتور “نبيل علي”، أن قضية التقنية هي قضية سياسية إجتماعية ثقافية في المقام الأول. وقد نقل عن “أرنولد بيسي” وصف التكنلوجيا بأنها ليست مجرد وسيلة أو أداة يستخدمها الإنسان في حل مشاكله والتحكم في بيئته، بل هي العملية التي لا بد أن تتسع لتشمل الظروف الإجتماعية التي أفرزت هذه الأداة أو الـوسـيـلـة، وكـذلـك الـجـوانـب

المختلفة للسلوك الإجتماعي فيما يخص تطبيقها… في إطار هذا المفهوم، تصبح التكنلوجيا عنصراً ذا ثلاثة أبعاد: البعد الفني (التكنيكي)، والبعد التنظيمي، والبعد الثقافي الأخلاقي. لقد سعى هذا التعريف إلى تأكيد حقيقة أنه لا جدوى من التطبيق التكنلوجي ما لم يصاحبه تعديل تنظيمي، وأن التكنلوجيا لا يمكن أن تدعي البراءة بمنأى عن نظام القيم الذي يكتنف ظروف نشأتها ويفرض قيوداً على تطبيقها. (2)

لقد قال “أنطونيوس كرم” عن التحديات التي تفرضها التقنية: “وفي حين يرى البعض في التكنلوجيا الحديثة تتويجاً باهراً لنجاح العقل البشري في السيطرة على الطبيعة وتدجينها لمصلحة الإنسان والبشرية، نجد أن البعض الآخر يرى في نفس التكنلوجيا شبحاً يهدد البيئة بـالـتـلـوث والـخـراب، والإنسانية بالدمار

(الحرب الذرية، الكيميائية..الخ)، والحياة الخاصة بالإختفاء… ويبدو أن هذه الحالة من القدسية التي يرسمها البعض حول التكنلوجيا الحديثة، وهذا الشبح المرعب الذي يعزوه البعض الآخر إليها يرجعان إلى حد كبير إلى عدم إدراك كافِ بطبيعة وحقيقة التكنلوجيا، وإلى إساءة الإستخدام الذي خضعت له في كثير من الأحيان”. (3)

من المعلوم – تاريخياً وفلسفياً – أن العقل الذي أنتج التقنية المعاصرة هو عقل الحداثة. وهو عقل أداتى، والمعرفة الحداثية معرفة تقنية بمعنى أنها إضفاء للطابع التقني على العلم، بل وإضفاء للطابع التقني على الثقافة ككُل. ولقد تحولت التقنية- لأول مرة في تاريخ البشرية – إلى ثقافة وإيديولوجيا بل إلى مـيـتـافـيـزيـقـا أيضاً؛ تحل محل الثقافة

التقليدية وتكيفها بالتدريج، مؤطرة المجتمع كله، محاولة وهبه المعنى، كما أكد المفكر المغربي “محمد سبيلا” في سفره عن “الحداثة وما بعد الحداثة”.

صحيح أن التقنية قد مكنت الإنسان من تجاوز العديد من العوائق، والقضاء على العديد من الأمراض والحد من الأوبئة، والإستجابة للعديد من المتطلبات الحياتية (الغذائية)، وما حققته على مستوى مصادر تجديد الطاقة ومعالجة بعض مظاهر التلوث، وغيرها، لكن كل ذلك تم في كثير من الأحيان على حساب مقومات بيئية أخرى، مثل إنقراض أنواع من الكائنات الحية بسبب الإستغلال المفرط للموارد الطبيعية أو بإستخدام مبيدات سامة، والإختلالات البيئية المرعبة والإحتباس الحراري وتقلص مساحات الغابات، الخ… إضافة إلى ظهور ما يسمى بأمراض العصر، والناتجة عن مخلفات التلوث الصناعي والإشعاعات وإنتشار المواد الكيماوية الموجودة بالأطعمة والأدوية، الخ؛ فكانت النتيجة ظهور أنواع جديدة من الأمراض الجسدية والعصبية، وزيادة أمراض الجلد والسرطانات والجهاز الهضمي والعصبي والتنفسي، إلى جانب أمراض عقلية مثل الفصام والهذيان والتوحد! (4)

هذا فضلاً عن المشاكل النفسية والإجتماعية والثقافية والقيمية التي صار يعاني منها “الإنسان التقني” مثل العزلة والشعور بالوحدة والهشاشة النفسية والمسغبة الروحية والسيولة العاطفية والقيمية…الخ.

واليوم، يزداد الأمر خطراً بفعل التجارب التي يقوم بها علماء الهندسة الوراثية وأطباء الجينات وعلماء الأعصاب ومهندسو الذكاء الصناعي…!

أما بعد، فإنه لم يعد من المقبول عقلاً – ولا أخلاقاً ولا مستقبلاً – النظر إلى دور التقنية بأنه يقتصر على تحقيق أقصى الأرباح للشركات والمستثمرين، وإنما يجب أن يتجاوز هذا النظر، وتأخذ التقنية أبعاداً أكثر إنسانية وحكمة، وتلعب أدواراً إجتماعية حقيقية ومفيدة، وتساهم بفعالية – منضبطة – في حل المعضلات المختلفة والمتجذرة التي تعاني منها المجتمعات في كل أنحاء المعمورة. يجب أن نسعى في فهم التقنية المعاصرة من جذورها الفلسفية وسياقاتها التاريخية وتطبيقاتها المعرفية والإجتماعية. إن التقنية الحالية كانت نتاج لإنتقال المجتمعات الغربية من العصر الصناعي إلى عصر إقتصاد المعرفة وتكنلوجيا المعلومات بعد سبعينات القرن المنصرم، ولكل عصر سماته وأدواته ومناهجه وآثاره. ولقد غيرت التقنية المعاصرة من علاقة الإنسان بالآلة تغييراً جذرياً، من علاقة التسخير، إلى علاقة الند والتكامل، وربما ستتجاوز الآلة الإنسان ويصبح هو مسخراً لها إن لم يتم تدارك الأمر بحكمة ومعرفة! أخيراً، لقد صار ينظر إلى محلل الأعمال على أنه “المستشار الداخلي” للمؤسسات، والمستشار مؤتمن كما قيل. وعليه، فإنه لا يجب أن يقتصر دور محلل الأعمال فقط في تحليل الجوانب التقنية الوظيفية وغير الوظيفية، بل يجب أن يكون إنساناً قبل كل شيء، حكيماً، وأن يسعى إلى تعظيم جوانب التقنية الإيجابية وتقليل غلواءها وآثارها السلبية، من خلال الآتي:

– المعرفة الدقيقة بالاتجاهات الرئيسية للتقنية بروافدها المتنوعة وتقييم “تكنيكاتها” المختلفة،

– ودراسة أبعادها الإجتماعية والإقتصادية والسياسية والثقافية والقيمية،

– والفهم العميق لطبيعة المتغيرات التكنلوجية وتوجهات السوق،

– ووضع إستراتيجيات وخطط تنمي وعي الناس والمؤسسات والدول بما تطرحه التقنية من تحديات،

– وأهمية البحث الجاد عن البدائل التقنية الأكثر إنتاجية وتوائماً والأقل خطراً وكلفة،

– والإستثمار المستقبلي والفاعل في التقنية، والمساهمة في التوطين والنقل الواعي للتكنلوجيا إلى أوطاننا عبر المراحل الخمس التي تحدث عنها “أبو التكنلوجيا العربية” الدكتور “نبيل علي” وهـي: الإقـتـنـاء، ثم التشغيل، ثم إضافة

التعديلات الخفيفة، ثم التطوير والإبتكار، وأخيراً الدخول في مرحلة المنافسة عالمياً. (5)

المراجع:

(1) (BUSINESS ANALYSIS, Fourth edition, Debra Paul and James Cadle, p1-3)

(2 ) العرب وعصر المعلومات، نبيل علي، ص227-228)

(3) (العرب أمام تحديات التكنلوجيا، أنطونيوس كرم، ص11-12)

(4) (الذكاء الصناعي وتحديات مجتمع المعرفة، حسان الباهلي، ص31-32)

(5) (العرب وعصر المعلومات، نبيل علي، ص194)